التغريد خارج السِّرب ( 1)

 

 

22/4/1428ــ 8/5/2007

أربعةٌ من الإخوة في قيادة العمل الدعوي في الجامعة وفي صحيفة البشائر كانوا وراء لقائي قبل نحو ثلاثة أسابيع بالباحث الأمريكي اللبناني الأصل د / فوَّاز جرجس الذي أفاد أنه باحث في جامعة في نيويورك ، وقد تابع الإخوة الأمر حتى التقينا في مكتبي بحضورهم واستدعوا كذلك الشيخ / عبد الملك التاج ، وقد بقينا لمدة ساعتين إلا قليلا ، من بعد الظهر وإلى قبيل العصر . وفاجأني الباحث ـ الذي كان يكتب ما يسمع طَوال فترة النقاش ـ بأنه صار معروفاً عني وعن الذين على شاكلتي أننا نغرِّد خارج السِّرب بخصوص نظرتنا للديمقراطية وللعمل السياسي للمرأة ، وأنه يريد السماع مني مباشرة في ذلك . ولا أجزم هل كان الذين حضروا معه من الإخوة على نفس الفكرة ... وقد ذكر الباحث أن الإسلاميين حسموا أمرهم في الموضوع ، وأن الديمقراطية صارت ضرورية في إخراج ديار المسلمين من النفق المظلم ، فقلت له : ليس هذا محلّ تسليم ، ونحن في ديار الإسلام لنا منهجنا الخاص المنبثق من شريعة الإسلام في كل مجالات الحياة ، ومن ذلك مجال الحكم فلا قبول عندنا لأي منهج وافد ، والواقع خير شاهد . وقلت له : هل وجدت خلال العقود الماضية رغم التركيز الإعلامي والثقافي والسياسي الغربي على المسلمين أن المنهج الديمقراطي تأسّس أو تجذّر في أي بلد إسلامي ، أو أنه لا زال مجرد قشرة غريبة سطحية بعيدة عن العمق ويوشك أن تزول بزوال المؤثر ؟ فأجاب الباحث بأن الديمقراطية فعلاً لم تنجح في أي بلد إسلامي ، ثم ذكرتُ له أن المسلمين رغم سلبيات التشرذم بسبب عدم التزام بعضهم بالأُخوّة التي يفرضها عليها دينهم فإن لهم حضورهم المؤثر في دنيا الناس حتى صار الإسلام أعظم قضية في ذهنية الغرب ... ومع غياب الديمقراطية عن المسلمين فلهم حضورهم الاقتصادي والمالي والزراعي والصناعي والعلمي والثقافي والديني وحتى النووي ! وخذْ أمثلةً على ذلك دولاً مثل الباكستان وماليزيا ودول الخليج ومصر ونيجيريا وإندونيسيا ... بل إن كثيراً من الكفاءات في ديار الغرب ورؤوس الأموال إنما هي إسلامية .... ثم إن الحكم في الإسلام له متخصصون وهم أهل الحل والعقد مثل ما أن للطب متخصصين وللتعليم متخصصين وللصناعة متخصصين وللتجارة ...الخ .

ولا يمكن أن يكون كل الناس مشتركين في تخصُّص الطب أو تخصص التجارة أو تخصص الصناعة .

وهذا فرق جوهري بين نظام الحكم في الإسلام القائم على التخصّص وبين نظام الديمقراطية القائم على إشراك كل الناس في هذا التخصص الخطير ، ولكنه لا ينجح في النهاية عندهم إلا من يعرف من أين تُؤكل الكتف ، سواء عن طريق المال أم الإعلام أم التزييف أم عن طريق ذلك كله أم بعضه ! وقد يقال : وهذا يوجد في نظام أهل الحل والعقد ، فقاعدة التغلّب يمكن أن تأتي بأي شخص ! ولكن يُرَدُّ عليه بأن قاعدة التغلّب مقيدة بقاعدة أخرى هي قاعدة الالتزام بالإسلام وعدم ظهور الكفر البواح .

وهذا معناه الالتزام في الجملة بالمشروعية العليا في العقيدة وفي الحلال والحرام وفيما يجوز وما لا يجوز .

وعند عدم الالتزام فإن الرأي العام كله يقف ضد المتغلّب الكافر وسوف يقضي عليه عاجلاً أو آجلاً ، وهذا ما يُفسّر بقاء الإسلام بسموّه وشموخه على مرّ القرون ، ويفسر زوال المبادئ واستبدالها عند غير المسلمين بوجود الديمقراطية ، أو بوجود التغلّب بدون مثل هذه القاعدة التي عند المسلمين ، وآخِر مثال على ذلك اندثار العقيدة الشيوعية ونظامها في وقت وجيز رغم أن بعض الدول الكبرى كانت قائمة عليها .

ونادراً ما يتغلب عند المسلمين شخص كافر كفرًا بواحاً ؛ لأنه لا يمكن أن يحكم أحد إلا وله شوكة أو عصبية ، ومن الصعوبة بمكان إيجاد هذه العصبية والشوكة بحيث يكون أهل الحل والعقد فيها داعمين للكفر البواح في ديار المسلمين .

وذكرتُ للباحث أن المجتمع المسلم كالجسد كما في التشبيه النبوي ، والجسد له رأس واحد ، والرأس عندنا أهل الحل والعقد وعلى قمتهم الحاكم ، وإذا حدث للرأس مرض فإنه يعالج ولا يستبدل ، وكذلك يعالج الحاكم عندنا بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسيد الشهداء عندنا من ضحّى بنفسه عند اللزوم في سبيل ذلك دون خروج .

وكما لا يقطع الرأس في الفرد إلا في الكفر البواح ( الرّدة) فكذلك الحال في رأس الدولة .

وكما يحرص الإسلام على استقرار الأسرة فإنه يحرص على استقرار نظام الحكم، في حين إن كثيراً من غير المسلمين ليس لهم قيمٌ يحرصون عليها في الأسرة ولا كذلك في نظام الحكم ، وكم شرّعوا للجندر وللزواج المثلي وللمحرمات والمنكرات التي ترفضها الفطرة سواء على مستوى الأسرة أم على مستوى المجتمع .

وعُدتُ فقلت للباحث : وأما قولك بأننا في نفَق مظلم ولن نخرج منه إلا بالديمقراطية ، فأقول لك : لعل أفضل قرن حضاري لديكم هو القرن العشرون ومع هذا خضتم خلاله حربين عالميتين حصدت منكم عشرات الملايين وألقيتم على أمة اليابان قنبلتين نوويتين حصدت مئات الآلاف ، كما أن مخازيكم الاستعمارية خلال هذا القرن فقط بلغت عنان السماء ولم تسعفكم ديمقراطيتكم التي تتغنَّون بها منذ بداية القرن وما قبله في إبقاء جذورٍ إنسانية لديكم .

ونحن رغم تشرذمنا وسقوط خلافتنا ووقوع كثير من ديارنا تحت سيطرتكم لم نفقد مبادئنا وإنسانيتنا وأخلاقنا ، ولم يحصل عندنا عشر معشار ما حدث منكم من جرائم ضد الإنسانية ... فمن يا ترى نحن أم أنتم في النفق المظلم ؟ ولننظر في مثل بسيط : حدث إعصار كاترينا في أمريكا وأعلنت الحكومة الفيدرالية حالة الطورائ في اثنتي عشرة ولاية خوفاً من السلب والنهب ، وعندنا تحدث الكوارث ويُهرع الناس للنجدة في الجملة وليس للاستلاب والانتهاب ... فهل النفق المظلم عند أمة الإسلام أو عند أممكم الديمقراطية التي بَلِيتْ عندها القيم واندثرتْ ؟!

وسألت الباحث هل تؤمن أن الإسلام أقام حضارة كبرى على مدى ثلاثة عشر قرناً ؟

فردّ بحماس بالإيجاب ، وذكَر أن الغرب ما قامت حضارته إلا على الاستفادة من تلك الحضارة الإسلامية الكبرى .

فقلت له : نحن لازلنا على مبادئ تلك الحضارة رغم ما حصل فيها من دَخَنٍ في الحُكم بفعل الضعف البشري ، ولكن هذا الدخَن لا يقارَن أبداً بما لديكم من انزلاقات وتحوّلات جذرية مُدمِّرة ... وسقوط خلافتنا وعْكةٌ عابرة وسوف نستعيد صحتنا وحضارتنا وأستاذيّتنا لكم ... فكيف تنصحنا باستيراد سلبياتكم ، وتزعم أننا في نفق مظلم ؟ بل إن أستاذيتنا اليوم قائمة فيكم بانتشار الإسلام بقوة في دياركم رغم تشرذمنا ! هذا هو الواقع ... ونحن برفضِنا لأي نظام لا ينتمي إلى ديننا إنما نعبّر عن واقعنا ... فمن يا ترى يغرّد خارج السرب ؟ من يتعامل مع الواقع والجذور والتاريخ والأصالة والمبادئ ، ويمنع التقليد والتلفيق والخلط والتصفيق للوافد والوارد في المبادئ ... أم من يتجاهل ويتنازل ويتساهل ويتغافل وربما تورط في النقيض ؟!!

إن المبادئ لا تقبل المساومة ! ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .            

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©