اهدنا الصراط المستقيم

مقال لمجلة الحميدية الصادرة باللغة العربية من تركيا العدد (2) جمادى الآخرة-رجب/مارس 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  

    الحمدُ لِله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أَمَّا بعد :

    فإن حاجة الأُمَّة إلى كيانٍ واحد أمْر مفْروغٌ منه ، ولا بُدَّ من التركيز عليه ، ولا بَدِيل عنه –

 كما ذَكَرنا في العدَد السابق – .. ومع ضرورة السعْي الحثيث لإيجاد هذا الكيَان الواحد .. تَبْقى

 ضرورة الانتِباه للطريق والجادَّة التي سوف يَمْضي فيها هذا الكَيان ، مِن أجْل أنْ يقوم بتحقيق

مشروعه في الحياة .. فهذا العالَم الذي نعيش فيه ، توجد فيه كياناتٌ ودُوَل .. بلا مشروعٍ ، ولا

 ذاتِيَّةٍ مُتَمَيِّزةٍ ، ولا خُصوصيّة  ، تعيش سائبةً تابعةً لِغيرها ، سائرةً مع الآخَرِين ، تَحْمِل تَبِعاتِ

الباطل و تُعاوِن مَنْظومة الفساد .

 

     قال الشاعر :  

 

           وإذَا ثَوَتْ بَينَ الضُّلُوعِ بَهائِمٌ        قَوِيَتْ علَى حَمْلِ العَصا الأَجْسامُ

   

 كما أن عالَمَنا فيه دُوَلٌ كبرى لها مشاريعها وأهدافها الدينيّة الخَفِيَّة التي تَسعى مِن خِلالها سِرًا

وعلانِيَةً للهَيْمَنَة وعَوْلَمَة هذه المشاريع في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية

والعسكرية ...  وفي سبيل ذلك تقوم بإنشاء المُنظَّمات التي تَزْعُم أنها دَوْلية وإنسانيَّة ، مع أنها في

الواقع خاصّةٌ بها .. هي التي تُدِيرُها وتُسيطِر على قَراراتها ، وتَمْنَحُ لِنفسِها حقَّ الاعتراض (الفِيتُو)

على القرارات التي لا تَرْضاها فيها ، وتعمل على إنشاء التَّكَتُّلات والتَّحالُفات من أجل الاستعانة

بها على الوصول إلى غاياتها .

   ومن الدُّوَل المُستعانِ بها .. الدّوَل السائِبة التي ذكَرنا  أنها لا خُصوصيّة لها ولا ذاتِيّة .. بعضها

صغيرةٌ  ، وبعضها كبيرةٌ مِن حيثُ قُوّةُ المال ، أوكَثْرةُ السُّكَّان .. لا تُخْطِئُها الأَبصار ، ولا يُشّقُّ

لها غُبار! .. ولكنَّها تُنافِق الكِبار! .

    لكنّ الإسلام لا يَرضَى لِأتْباعهِ الذين هم عُقلاء الأرض بِأَقَلَّ مِن كسْب الدنيا والآخرة ، ولا

يَسمح لهم بِأَدْنَى مِن دَولةٍ كبرى تَلِيقُ بِدين الإسلام العظيم الخاتَم ، المُهَيْمِن على كلِّ وَحْيٍ سماوِيٍّ

قبْله ، دَعْ مااخترَعَه البشر .. فقد أخَذَ الله الميثاق على الأنبياء السابقين باتِّباع النبي الَّلاحِق ،

عليهم جميعًا الصلاة والسلام ، ولذلك عندما ينْزِل عيسى عليه السلام كما في النصوص المُتَواتِرة لا

يحكُم إلَّا بالإسلام ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ

جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا

أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران .

   ودولةُ الإسلامِ الكبرى لها مَشروعها الضخْم في إنقاذ الإنسانيّة مِن بَلايا الدنيا ومن أهْوال

الآخرة ، ولها ماضِيها العريق الذي لا يَنْساهُ الزمان ، ولها مُستقبلها المُشرِق الذي سوف يشمَل

بإذن الله بَني الإنسان ، رغْم كَيْدِ الأعداء ، قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ

وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ

عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة .

    ولا بدّ لِلمسلمين من التميُّز بدينِ الله الكامل ، الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلْفه

، بحيثُ لا يَركنُون إلى غيره ، ولا يَسْتورِدون المَبادئ مِن البَشَر ، لاسيَّما وأن قرآنهم المَعْصوم قد

قَطَعَ بأنَّ  المسلمين مَهْما تنازلوا لن يرضَى عنهم اليهود ولا النصارى إلَّا  بالكفْر الكامل ، قال

تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) البقرة ، بل قال سبحانه : (وَلَا

يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) البقرة . وجِراحُنا النَّازِفة في كل مكان

شاهدةٌ بذلك .

    وإنّ دولةَ الإسلام ومُجْتَمَعَ وأفْرادَ المسلمين يَتَمَيَّزون بالتزامِ الصراط المستقيم وبالإلْحاحِ على

الله في الصلاة وغيرها أنْ يَهدِيَهم إليه ويُثَبِّتَهم عليه في الدنيا ، ويوَفِّقَهُم في الآخرة  إلى اجْتيازِ

الصراط المَمْدُود فوقَ جهنّم ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ، ثُمَّ

نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) مريم .      

     ومن وسائل الهداية والثباتِ على الذاتيّة والخُصوصيّة في التزام الصراط المستقيم أن الله شَرَع

الصلاة ، لِتكون صِلَةً قَوِيَّةً بين العبْد وربِّه للإعانةِ على الهداية والثبات ، و سَمَّى اللهُ الفاتحةَ :

(الصلاة) ، فَفي صحيح مُسلم، عن أَبِي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله

تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيْنِي وبَيْنَ عبْدِي نِصْفَين، فنِصْفُها لِي ونِصْفُها لِعبْدِي، ولِعبْدِي ما سأَل ...

إلى قوله : فإِذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ

عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، قال: هذا لِعبْدِي ولِعبْدِي ما سأَل".

    والدّعاءُ بالهداية إلى الصراط المستقيم يتَكَرَّر كلّ يوم مع تكْرار الصلوات ، وهو دليلٌ على

أهمِّية إخلاص هذا الدُّعاء ..  

    ومن فوائد الإخلاص التثْبِيت على الصراط المستقيم ، لأنّ المَوَانِع و الصّوَارف والتقلُّبات كثيرة

، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول – وفي ذلك تعليمٌ لأمته - : «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ

قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» رواه مسلم عن عبد الله بن عمْرو .

   وقد نقَل ابن كثير في تفسيره الإجماع على أنّ "الصراطَ المُستقيمَ" هو الطريق الواضح الذي لا

اعْوِجَاجَ فيه .. و ساقَ الروايات العديدة التي تدلُّ على أن  الصراط المستقيم يدُور معناه على

الإسلام والقرآن والحق ونحو ذلك ، وقال :حاصِلُها يَرْجِع إلى شيءٍ واحدٍ، وهو المُتَابَعَة لِلَّهِ

وَلِلرسول  .

    ثم بَيَّن أنّ قوله تعالى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) مُفسِّرٌ لِلصراطِ  .. أَنّه صراط الذين أنْعَم

اللهُ عليهم ، وهم المذْكورون في قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ

عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) النساء .

   وظهَرَت بذلك ضرورة المُتابَعة و المُمَاثَلَة لِلذين أنعم الله عليهم في كل زمان ومكان ، وجاءَ

بعدها بيانُ ضرورة المُمانَعة والمُفَاصَلَة لِصراط المغضوب عليهم وصراط الضالين .  والمغضوبُ

عليهم هم اليهود ، والضالُّون هم النصارى ، وأورَد ابن كثير وغيره رواياتِ ذلك عند أحمد

والحميدي وعبد الرزاق وابن مردويه وغيرهم ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعْلَم بين المُفَسِّرين في هذا

اختلافًا .

    والتَّرْكيزُ على الدُّعاء في كل صلاة باجتناب صراطِ اليهود و صراط النصارى .. دليلٌ على أن

اليهود والنصارى هم قادة مُعَسْكر الكفْرِ في الأرض ، وأنهم وَراءَ الحروبِ والمؤامَرات على

الإسلام والمسلمين ، في كلِّ الأزمان ، وأنه لا بدّ من مُفاصلتِهم ، والبراءَةِ الصَّارِمة منهم والحذَر

مِن تقليدِهم أوالتَّشّبُّهِ بهم أو مُوَافَقَتِهم في أفكارهم أو سِياساتِهم أو تشريعاتهم ، أو انتِظار الحُلولِ أو

المَصالِحِ مِنهم .

    وقد حضرتُ في جَمْع مِن المهاجرين من بُلدان عديدة  عند أحد الوُجهاء السياسيين في

إسطنبول فقال : المُشكلة أن كثيرًا من المسلمين يَبحثون عن الحلول عند الذين صنَعوا لهم

المُشكلات ، يعني عند اليهود والنصارى ومُنَظَّماتهم ولِقاءَاتهم !! ..

     كما قِيل :         

                 المُسْتَجيرُ (بِعِلْجٍ ) عنْد كُرْبَتِهِ        كالمُسْتَجيرِ مِن الرَّمْضَاءِ بالنَارٍ

   فمتى يزول الانفصام بين صلاتنا وحياتنا ؟ ويَحِلّ مَحَلَّه الانسجام التَّام ؟ .. قال تعالى: (قُلْ

 إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنَّ

صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ

الْمُسْلِمِينَ) الأنعام .

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©