الكَثِير مِن تفسير ابن كَثِير (13)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  

{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ 3}:   

     قَالَ ابن عباس: يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ والتِّلاوة والخشوع والإقبال عليها . وَقَالَ قَتَادَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا، وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا.

    وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قَالَ: زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قَالَ: هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الزَّكَاةُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: كَانَتِ النَّفَقَاتُ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ ، حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ فِي سُورَةِ بَرَاءَة ، هُنَّ النَّاسِخَاتُ المُثْبتَات.

وَقَالَ قَتَادَةُ: ... أَنْفِقُوا مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ.. هَذِهِ الْأَمْوَال وَدَائِعُ عِنْدَكَ ، يُوشِكُ أَنْ تُفَارِقَهَا.     

وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّة .. زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلٍ أَوْ عِيَالٍ ، ومَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْر ذَلِكَ .

    قُلْتُ: كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْه ، وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ .. والإنفاقُ هوالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالنَّفْعِ ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْقَرَابَاتُ وَالْأَهْلُونَ وَالْممَالِيكُ ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ، فَكُلُّ ذلك دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، وَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ"  . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.

    وَأَصْلُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ، وَصِفَاتِهَا، وَأَنْوَاعِهَا الْمَشْرُوعَةِ الْمَشْهُورَةِ.

    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ سُمِّيَتْ صَلَاةً؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَعَرَّضُ لِاسْتِنْجَاحِ طَلِبَته مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ، مَعَ مَا يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ حَاجَتِهِ – يعني في الدُّعاء- .

      وَاشْتِقَاقُ الصلاة مِنَ الدُّعَاءِ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ من الأقوال الأخرى ،ولذلك لا بدّ من التأنِّي فيها حتى يتحقَّق الدعاء فيها على خير ما يرام، وتَنْتَظِم معه في القدْر والخشوع سائر أركان الصلاة، وَاللَّهُ أَعْل. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا في موضعه إن شاء الله.

    {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}:

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُل مِنْ قَبْلِكَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ، {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أَيْ: بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْحِسَابِ، وَالْمِيزَانِ.

    وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْآخِرَةُ لِأَنَّهَا بَعْدَ الدُّنْيَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَوْصُوفِينَ بهذه الآية ..

    فمنهم مَن قال إنَّ الْمَوْصُوفِينَ بها هُم الموصوفون في الآية السابقة ،وَذلك شاملٌ لِمُؤْمِنِي الْعَرَبِ وَمُؤْمِني أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ.

     وَمنهم مَن قال: إنَّ الْمَوْصُوفِينَ بالآية السابقة مُؤْمِنُو الْعَرَبِ ، وَالْمَوْصُوفينَ بهذه الآية هم مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، نَقَلَهُ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ .

    وَاخْتَارَ القول الأخير ابْنُ جَرِيرٍ، وَيُسْتَشْهَدُ لِقَولِه بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} الْآيَةَ ،آل عِمْرَانَ 199 ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الْقَصَص 52-54 .

     وَبما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي، وَرَجُلٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا" .

     وَالاسْتِشْهَادُ لِابنِ جريرٍ عَلَى صِحَّةِ قولِه كان بِمُنَاسَبَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُؤمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ صَنَّفَ الْكَافِرِينَ إِلَى صِنْفَيْنِ: مُنَافِق وَكَافِر، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ صَنَّفَهُمْ إِلَى عَرَبِيٍّ وَكِتَابِيٍّ.

   قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وهو القول الأوَّل ، فِيمَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عن ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ .

    فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ يَتَّصِفَ بِهَا مِنْ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَكِتَابِيٍّ مِنْ إِنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ، وَلَيْسَ تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِدُونِ الْأُخْرَى، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْأُخْرَى ، فَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِذَاكَ .

    وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عموم الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ} الْآيَةَ ، النِّسَاء 136 .

    وَقَالَ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} الْآيَةَ ، الْعَنْكَبوت 46  . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} النِّسَاء 47 .

    وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} الْآيَةَ ، الْبَقَرَة 285.

    وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} النِّسَاءِ 152، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

     لَكِنْ لِمُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ خُصُوصِيَّةٌ، لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمَا بِأَيْدِيهِمْ مُفَصَّلًا ، فَإِذَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَآمَنُوا بِهِ مُفَصَّلًا كَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّهم يؤمنون بِمَا تَقَدَّمَ مُجْمَلًا كَمَا جَاءَ فِي البخاري : "لَا تُصَدِّقُوا أهلَ الكتابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ، وقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ".                        

     وَقَدْ يَكُونُ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ وَأَعَمَّ وَأَشْمَلَ مِنْ إِيمَانِ مُؤمِني أهل الكتاب بالْإِسْلَامِ، فَهُمْ وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ أَجْرَانِ ، فَغَيْرُهُمْ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ التَّصْدِيقِ مَا يُنيف ثَوَابُهُ عَلَى الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ حصلَا لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

     {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }:

     {أُولَئِكَ} الْمُتَّصِفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَالْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى الرَّسُولِ ومَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَاد لَهَا بِالصَّالِحَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ...

{عَلَى هُدًى} أَيْ نُورٍ وَبَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

    وقد ورَد عن ابن عباسٍ قريبٌ من ذلك ، وعبَّر ابن جرير عن مِثْله بكلامٍ أوْسَع .

    {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) }:

    { كَفَرُوا} غَطَّوا الْحَقَّ وَسَتَرُوهُ، وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِم الكفْر جزاءَ عِنادهم، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُون ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} يُونُسَ 96، 97 .

    وَقَالَ فِي الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} الْآيَةَ الْبَقَرَةِ 145 ، فإِنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ بسبَب عِناده فَلَا مُسْعِد لَهُ، وَمَنْ أضلَّه فَلَا هَادِيَ لَهُ، وإنما عليك إقامة الحُجَّة بالبلاغ قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} الرَّعْدِ 40، وَ قال تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} هُودٍ 12 .

     وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاس ويُتَابعوه عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السعادةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ.

    الكفْر عِقابٌ للمُعاندين المُتكبِّرين بسبَب عِنادهم وكِبْرهم:

     وهذا المعنى من كلام ابن عباس أَظْهَرُ، وَيُفَسَّرُ بِبَقِيَّةِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وقد كتَب الله في اللوح المحفوظ على الطغاةِ المُعْرِضين وأتْباعِهم وأشباهِهم أنهم لا يُؤِمنون ، ولذلك يجب على العاقل أنْ يُذِلَّ نفْسَه لِله في طَلَب الهِداية ، ويَنْطَرِح بين يدَيه ويَحْرِص ، فإنّ الله لا يهدي المُتكبِّرين المُغْتَرِّين بِقُدُراتهم ، قال تعالى : (سأَصْرِفُ عن آيَاتِيَ الَّذينَ يَتَكَبَّرونَ في الأرضِ بِغَيرِ الحقّ) الأعراف ،  وعليه أن يَعزِم ويُخْلِص لِلهِ في الدُّعاء ، في مناسَبات الخشوع والإجابة ، ومنها مناسَبة الصلاة ، فالصلاة إنما هي دُعاء ، وقد أمر الله في كتابه بالاستعانة بها وبالصبر، في قوله سبحانه: (ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ والصَّلاةِ إنَّ اللهَ معَ الصَّابِرِين) البقرة ، ولاسيَّما في مناسبة الدُّعاء بالهِداية عند قراءة الفاتحة في كلِّ ركعة، وعند التَّأمِين فيها ، وكذلك في السُّجُود ، فإن العبْد أقربُ ما يكون مِن ربِّه وهو ساجدٌ كما في الحديث الذي في صحيح مسلم ، وبِهذا تظْهر أهمِّية التأنِّي في الصلاة ، وعدَمِ الاستعجال ،حتى يتمكَّن المُصلِّي من قضاء حاجاتِه في الصلاة بِرَوِّيَّةٍ وهُدُوء ، قال تعالى : (وَقُومُوا لِلهِ قانِتِين) النساء .

    {لَا يُؤْمِنُونَ} جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ هُمْ كُفَّارٌ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ؛ الإنذار وعدم الإنذار ، فَلِهَذَا أَكَّد ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَا يُؤْمِنُونَ} ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {لَا يُؤْمِنُونَ} خَبَرًا لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} جُمْلَةً مُعْتَرِضَة ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ  .

     

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©