الأَضحَى والجسَد الواحد

خطبة عيد الأضحى في مسجد النور (حي النهضة) في 10 من ذي الحجة 1434هـ الموافق 15 أكتوبر 2013م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    يوم الأضحى يومٌ عالَمِيٌّ من شعائر الله :

    هذا اليوم من شعائر الله ، والحجيج قادمون من كل أقطار الأرض  من 188 بلدًا ، ونازلون جميعًا في المشاعر المقدَّسة !! .. إنه اجتماعٌ عالمي يُمَثِّل عالَمية الإسلام ، والحجيج من عالَم الإنس  ومن عالَم الجن ! وهنالك عالَم الملائكة ، ومعلوم من الأحاديث مشاركتهم للمؤمنين في مناسبات الذِّكْر .. قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه .

    وفي شرح مسلم للنووي :... وَذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ في مسنده من رواية ابن عُمَرَ قَالَ : (إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ عِبَادِي جاءُوني شُعْثًا غُبْرًا يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي وَلَمْ يَرَوْنِي فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟) وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ .

     وجميع المسلمين في أنحاء العالَم يحْتَفُون بشعيرة عيد الأضحى رجالًا ونساءً : بالصلاةٍ والذكْر والتكبير والأكل والشُّرْب وصِلة الأرحام .

    الذبْح والنَّحْر شعيرةٌ عالَميّةٌ من شعائر الله :

     ذبْح الأضاحي والهَدْي في هذا اليوم والأيام الثلاث بعده هو إحياءٌ لسنة إبراهيم ، قال تعالى: (وفديناه بذِبْحٍ عظيم) الصافات ، وقال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ) الكوثر ، وقال سبحانه : (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الحج .

    والأضاحي تُشْتَرَط لها شروط ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ -، وَأَصَابِعِي أَقْصَرُ مِنْ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ يَقُولُ: (لَا يَجُوزُ مِنَ الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي) رواه مالك و أحمد وأصحاب السُّنَن وابن حبان والحاكم وصحّحه والبيهقي وقال الألباني صحيح .

    عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الغَنِيُّ الفَقِيرَ ... رواه البخاري . و رواه مسلم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ ثَالِثَةٍ شَيْئًا) ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ أَوَّلَ، فَقَالَ: (لَا، إِنَّ ذَاكَ عَامٌ كَانَ النَّاسُ فِيهِ بِجَهْدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَفْشُوَ فِيهِمْ) .

    وهذا يدل كذلك على العالَمية ، فالمسلمون جسدٌ واحد ، والفقراء منهم لهم حقٌّ من أيِّ بلدٍ كانوا ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن ادِّخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، من أجل الدافَّة أو الفقراء الذين قَدِموا من خارج المدينة .

    لا استقلالَ ولا حدودَ بين المسلمين :

    وهذه المعاني وغيرها تُلْغِي الحدود والاستقلال المُبْتَدَع بين المسلمين والتأشيرات والإقامات التي رسَّمَها أعداءُ المسلمين واقتدى بهم الحكام ففرضوها فيما يُسَمَّى بالدساتير والقوانين واللوائح والقرارات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

     وبسبب ذلك استفرَد الأعداء بكل إقليم على حِدَة فتآمروا على فلسطين واحتلُّوها ،  وهي في المأساة منذ خمسٍ و ستين سنة ، والحصار اليوم على غزة من جيرانها المسلمين أشدّ ، واستفرَدوا بالبوسنة والهرسك ، وبأفغانستان ، وبالصومال ، وبالعراق ، وبالسودان ، وباليمن ،وبسورية ، وبمصر ، وببورمة ، وبتُرْكسْتان الشرقية .. إلخ .

    إنهم يريدون كل إقليم للمسلمين قزَمًا يحبسونه في جلْدِه ببضعة ملايين أوبضعة عشراتٍ من الملايين من السكان ، ويحْرِصون أن يُكَوِّنوا لأنفسهم الدول العِمْلَاقَة التي سكانها مئات الملايين .

     وإذا كان الإسلام نهى عن ادّخار الأضاحي فوق ثلاث لِمواجهة جوع بعض المسلمين ، فماذا أعدَّ المسلمون لِمواجهة قتْل المسلمين وتدمير ممتلكاتهم في هذه الأيام على نطاق واسع ؟!! ألم يبايِع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الحديبية وهم ألف وأربعمائة عندما جاءَه خبرٌ أن المشركين غَدَروا بعثمان رضي الله عنه ، ثم لم يكن الخبر صحيحًا .. فأين المسلمون ؟

      إن إفراد الأقاليم الإسلامية عن بعضها بالاستقلال وبالنعرَات القومية والوطنية المنافية للأُخُوَّة مناقَضةٌ لِأصل الدِّين الذي يفرِض الأُخُوَّة والتماسُك في كل الشعائر ، لأن الاستقلال مؤامرة لترسيم الضعف ، قال تعالى : (ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلوا وتَذْهَب ريحكم) الأنفال .

     والعالَم كله يتَّجِه إلى التكتُّلات والتحالفات كما في الدول الكبرى و الاتحاد الأوروبي وحِلف الناتو ، ويدخل الداخلون بتأشيرة واحدةٍ في قارة بأكملها تقريبًا وهي أوروبا ، و مع ذلك يتآمرون علينا باستمرار التقسيم الأوَّل فينا منذ اتفاقية سايكس بيكو ، ومنْع تدخُّل بعضنا للتعاون مع بعض ، ويضيفون علينا تقسيماتٍ جديدة كما في السودان والعراق ومشروع تقسيم سورية ومصر واليمن و معظم جزيرة العرب كما في مخطّط مؤسّسة راند التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية .

     فيجب أن نعمل على أن نعود حُزْمةً ، وما ذلك على الله بعزيز ، ولا نقبل أن نكون أعوادًا ، قال الشاعر العربي :

كُونُوا جميعًا يابَنِيَّ إذا اعتَرَى خطـْ               ـبٌ  ولا تتَفَرَّقوا أفرادَا

           تَأْبَى الرِّماحُ إذا اجتَمَعْنَ تَكَسُّرًا              وإذا افتَرقْنَ تكسَّرتْ أحادَا

      وفي الختام يقول سبحانه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©