الإبداع الإلهي في المتقابلات المتنوِّعات

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 10رمضان 1431هـ الموافق20 أغسطس 2010م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/ebda.mp3

    نماذج من التميُّز والتنوُّع في القرآن :

     وُجِد التميُّز  في لفظ (المقيمين) بالنصب ـ وذلك أبلغ وأبقى من أن يُوضَع تحته أو فوقه خط ـ في مقابل الرفع في الأوصاف الأخرى لِلَفْت العقول لأهمية الصلاة في قوله تعالى : (لـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) النساء .

    ووجد التميُّز في أوّل سورة التوبة بخُلُوِّها من البسملة لِلَفْت العقول إلى غضب الله على الكافرين والمنافقين ، وأهمية الجهاد لإنزال عقاب الله بهم ودفع شرهم ،  وفي المقابل جاءت البسملة في وسط سورة النمل لبيان أهميتها عند البدء بأيّ أمر ذي بال كالرسالة ، و كذلك لمراعاة الإعجاز العددي والنظْم   ، قال تعالى : (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) النمل .

    و في سورة مريم كانت الفاصلة بالألِف ، وجاءت حكاية كلام عيسى في المهد ، وآخر الكلام : (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) مريم . ثم تغيّرت الفاصلة إلى النون و إلى الميم للتميُّز لِلَفْت العقول ، لبيان أهمية التوحيد والرد على النصارى القائلين بأن عيسى ابن الله ..   (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ) ثم بعد هذا الالتفات وتحْقيق الغرض منه عادت الفاصلة إلى الألف كما كانت .. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً)  .

     التقابل والتنوُّع في بدرٍ و أحُد :

     وفي بدر حصل للمسلمين التسكين والطَّمْأَنة بعدة أمور ، وحصل للمشركين ما يقابل ذلك أي العكس ومن المطر بالذات ، قال تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) الأنفال .

    ووُجد التميُّز والتنوُّع في أُحُدٍ بين الغمَّين في قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) آل عمران . و كانت النتيجة أن الغمَّ الثاني جاء في مقابل الغمِّ الأول فأبطل أثره ، ثم تبيَّن أن الغمَّ الثاني بسبب إشاعة غير صحيحة ، فزال هذا الثاني بعد أن كان قد أزال الأول ، أي أن الإبداع الإلهي أزال الغمَّين عن المسلمين بهذه الأسلوب العجيب بعد أن حصل المسلمون على ثوابهما وعلى سائر المصالح التربوية  ..

     قال ابن كثير : وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار ،  حتى قُتِل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا - حيث يقول الناس - الغار ، إنما كان تحت المِهْراس، وصاح الشيطان: قُتل محمد، فلم يُشَك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق ، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين ، نعرفه بتلفُّته إذا مشى ، قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا .

     قال: فَرَقِيَ نحونا وهو يقول: (اشتد غَضَبَ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ) . ويقول مرة أخرى: (اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا) حتى انتهى إلينا ، فمكث ساعة ، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعْلُ هبل، مرتين - يعني آلهته - أين ابن أبي كَبْشة؟ أين ابن أبي قحَافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: يا رسول الله، ألا أجيبه؟ قال: (بلى) قال: فلما قال: اعل هبل. قال عمر: الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان: قد أنعمت عينها فعَادِ عنها ، أو: فَعَالِ! فقال: أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قُحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر.

     قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دُوَل ، وإن الحرب سِجَال . قال فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال إنكم تزعمون ذلك، لقد خِبْنا إذا وخَسِرْنا ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مُثْلة ولم يكن ذلك على رأي سَرَاتنا. قال: ثم أدركَتْه حَمِيَّة الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نَكْرهْه.

     هذا حديث غريب، وسياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه. وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه، عن عثمان بن سعيد، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في (دلائل النبوة)  من حديث سليمان بن داود الهاشمي، به ، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها . اهـ .

     وفي تفسير الشوكاني : أخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف : (فأثابكم غَمّاً بِغَمّ ) قال : الغمّ الأوّل بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل : قُتِل محمد ، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير  وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : (غَمّاً بِغَمّ) قال : فرّة بعد الفرّة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال : الغم الأوّل : الجراح والقتل ، والغم الآخر : حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتِل . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله .

     وفي (دلائل النبوة) للبيهقي قال : وبإسناده أي الحاكم عن ابن إسحاق ، قال : حدثني عبد الواحد بن أبي عوف ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، قال : كانت امرأة من الأنصار من بني ذبيان فقد أصيب زوجها وأخوها يوم أحد ، فلما نعوا لها قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا ، يا أم فلان ، فقالت : أرُوْنِيْهِ حتى أنظر إليه ، فأشاروا لها إليه ، حتى إذا رأتْه قالت : كل مصيبة بعدك جلَل .

     التميُّز والتنوُّع في المخلوقات ومنها السماوات والأرض والزوجيات و النباتات :

     ومن التميُّز والتنوُّع  ما ذكره الله في قوله : (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الرعد .

     وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ :

     ومن التنوُّع ما يجري اليوم بباكستان من الفيضانات فهو نوعٌ من الغمّ لإذهاب نوعٍ آخر من الغمّ  أعظم ! كما حدث في أُحُد ، وهذا الغم الأعظم هو ما صنَعه الأمريكان بالقصف اليومي للناس بالطائرات بدون طيار وبالصواريخ ، فلما جاءت الفيضانات لم يَعُدْ مقبولاً استمرارهم في القصف .  وفضَحَهم الله أيضاً مع الحكومة العميلة بالتقاعس عن الإنقاذ و بالاعتراض حتى على الإغاثات والمساعدات ،  وبلغت بهم اللامبالاة بمعاناة الناس إلى حد القول إن المساعدات يمكن أن يستفيد منها الإرهاب .   

     و هذه الفيضانات شبيهةٌ بما فعله الخَضِر في تعييب السفينة دفعاً لِمَا هو أعظم و هو ظلم المَلِك .

     و من المتنوِّعات كذلك ما يجري في الدنيا من الخير والشر (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء . و خلْق الملائكة وخلْق الشياطين وخلْق الإنسان ما بينهما فيه صفات من جنسيهما (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) الشمس . وخلق المتقابلات الكثيرة كالدنيا والآخرة والسماء والأرض والليل والنهار والذكر والأنثى .. إلخ . والحِكَم في ذلك لا تُحصى .

      برنامج رمضان نوعٌ من التميُّز والتقابُل مع بقية الأشهر :

      ورمضان ببرنامجه المكثّف المتميِّز بالصيام والقيام والقرآن والدعاء والإنفاق و الاعتكاف وليلة القدر وتصفيد مرَدَة الشياطين  وفتح الجِنان وإغلاق النيران ... إلخ . فيه من التنوُّع في العبادات والفضائل والتربية والتزكية ما لا يوجد في غيره  ، وهو شامةٌ بين الأشْهُر لا مثيل له فيها بتميُّزه .. فعلى الناس مراعاة ذلك و عدم تبديل البرنامج و عدم تحويل النهار إلى ليل ، والاستفادة من تقوية الإرادة فيه بالصيام للتحرُّر من العادات السيئة ، وعدم خرْقها في المساء بتعاطي القات والدخان و متابعة القنوات والمسلسلات والمسابقات الفارغة و نحوذلك .

     عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما شاء الله ، يقول الله: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخُلُوف فِيه أطيب عند الله من ريح المسك . الصوم جُنَّة ، الصوم جُنَّة) رواه مسلم وأحمد .

    وعند البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) .

    و في المتفق عليه عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) .

     ...إلخ النصوص الكثيرة الواردة عن رمضان و عن فضائله  .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©