كلُّ شيءٍ بِقَدَر

خطبة جمعة في مسجد قونشلي في غرة ربيع أول 1440هـ الموافق 9 نوفمبر 2018م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/kadar.mp3

لسماع الخطبة بصيغة " إم بي ثري " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/mp3/kadar.mp3

 

     القدَر أحد أركان الإيمان السِّتَّة:

     جاء في تفسير ابن كثير: عَنْ أَبِي هُرَيرَة قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} . رَوَاهُ أحمد ومُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .           

     وقال الشوكاني في تفسيره: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) الرعد، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمِقْدَارٍ، وَالْمِقْدَارُ: الْقَدْرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أَيْ: كُلُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ جَارِيَةٌ عَلَى قَدَرِهِ الَّذِي قَدْ سَبَقَ وَفَرَغَ مِنْهُ، لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ عَالِمُ كُلَّ غَائِبٍ عَنِ الْحِسِّ، وَكُلَّ مَشْهُودٍ حَاضِرٍ، أَوْ كُلَّ مَعْدُومٍ وَمَوْجُودٍ، ولا مانع من حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

        قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ (كُلَّ) عَلَى الِاشْتِغَالِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمْأَلِ بِالرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ خلقه الله سبحانه متلبِّسًا بِقَدَرٍ قَدَّرَهُ وَقَضَاءٍ قَضَاهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. وَالْقَدَرُ: التَّقْدِيرُ.اهـ.

      وذكَر ابن كثير أن قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القَمر، كَقَوْلِهِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الْفُرْقَانِ، وَكَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} الْأَعْلَى، أَيْ: قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ؛ وَيُسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وغيرها وبحديث جبريل وغيره أئمةُ السُّنَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ قَدَر اللَّهِ السَّابِقِ لِخَلْقِهِ، وَهُوَ عِلْمُهُ الْأَشْيَاءَ وكتابتُها قَبْلَ كَوْنِهَا، وَرَدُّوا بالآيات ِوالْأَحَادِيثِ عَلَى الفرْقة القَدرية الَّذِينَ نَبَغُوا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ.

      وقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّار، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُبَادَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَتَخَايَلَ فِيهِ الْمَوْتَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ لِي. فَقَالَ: أَجْلِسُونِي. فَلَمَّا أَجْلَسُوهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَمَّا تَطْعَمْ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَمْ تَبْلُغْ حَقَّ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ وَشَرُّهُ؟ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ. يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" يَا بُنَيَّ، إِنْ متَّ ولستَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى البَلْخِي، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .

      وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِي بْنِ خِرَاش، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْل، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهِ . وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَهُ وَقَالَ: "هَذَا عِنْدِي أَصَحُّ". وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، بِهِ .

      وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" زَادَ ابْنُ وَهْبٍ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} هُودٍ. اهـ. من تفسير ابن كثير بتصرُّف.      

     القدَريَّة المُنْكِرون أن الله قدَّر الخير والشَّرَّ هم مَجْوس الأُمَّة:

     عَنِ ابْنِ زُرَارة، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، قَالَ: "نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أُمَّتِي يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُكَذِّبُونَ بِقَدَرِ اللَّهِ" رواه ابن أبي حاتم.

      وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ.. إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ" رواه أحمد.

      والمقصود أن القَدَرية يُشْبِهون المجوس الذين يعتقدون بإلَهَين، إلهٍ للخير وإلهٍ لِلشرّ، لِأن القدَريَّة يُنْكِرون جَزْمًا أن الله قدَّر الشَّرَّ وخلَقَه، وأما المسلمون فيؤمنون أن الخير والشَّر من الله، ومع ذلك لَا يَنْسِبُون الشَّرَّ إلى الله، لِأنه ما دامَ جاء لِحكْمة فهو خير، وإن كان شرًّا بالنسبة لِمَن وقَع عليه كعقوبة، ومعلوم أن معاقبة المُخالِف إقامةٌ لِلعدل، وهذه الإقامة خيرٌ، وبهذا نفهم معنى قوله تعالى: (إنَّ ربِّي على صرطٍ مُستقيم) هود. وقوله تعالى: (...هلْ يَسْتَوِي هُوَ ومَن يأْمُر بالعدْلِ وهو على صراطٍ مستقيم) النحل. ونفْهَم معنى الحديث الذي في صحيح مسلم (والشَّرُّ ليسَ إليك) ، وفي غزوة أحد حدثتْ لِلمسلمين مُصيبةٌ بسبب المخالَفَة فقال الله لهم وللناس جميعًا إلى يوم القيامة: (أوَلَمَّا أصابتْكم مُصيبَةٌ قدْ أصَبْتُم مِثْلَيْها قلتُم أَنَّى هذا قُلْ هوَ مِن عندِ أنفُسِكم) آل عمران.

     الأخْذ بالأسباب من القدَر ولا يَلُوم الإنسان نفسَه بعدها إذا لم يَعْصِ، بل يُسَلِّم لِلقدَر:

     لا بدَّ من الأخذ بالأسباب لِأن الإنسان مأمورٌ بها، والأسباب من القَدَر، والإنسان لا يدري ما هو المكتوب له، لِأنَّ القَدَر سِرُّ الله في الهداية والرزق وكلِّ شؤون الحياة، وإنما يظهر السِّرُّ بمرور الوقت، وعلى الإنسان التسليم لِمَا قدَّرهُ الله قبْل وبعد ظهوره، وفي بعض الأحيان قد يكون القدَر عقوبة كالوقوع في الضلال أو في بعض المصائب لقوله تعالى: (فلمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قلوبَهم) محمد، وقوله: (وما أصابَكم مِن مُصيبَةٍ فَبِما كسبتْ أيديكُم ويعْفُو عن كثير) الشورى، أو يكون مُكافأة لقوله تعالى: (والذينَ اهتَدَوا زادَهم هُدًى وآتاهُم تَقْواهُم) محمد. أو يكون لغير ذلك من الأسباب الخَفِيَّة العظيمة التي يعلمها الخلَّاق العليم في تدبير شؤون الحياة، وتكامل المخلوقات وتسخير بعضها لبعض.

      والتسليم لِلقَدَر هو تسليٌم لِلَّه الحكيم علَّام الغيوب، بعد الأخْذ بالأسباب المُتاحة، قال تعالى: (لَا يُسْأَل عمَّا يَفْعَلُ وهم يُسْأَلون) الأنبياء. والذي يُصلِّي الاستخارة يقول: (فإنَّكَ تقْدِر ولا أقْدِر وتعلَمُ ولا أعلَم وأنتَ علَّامُ الغُيُوب) رواه البخاري، وقد ذكر الخضِر عليه السلام في قصته في سورة الكهف أنَّ حكْمة تَعْيِيْبِ السفينة هي حِمايَتُها من الظالم ولعل ذلك ظهَر لِأصحاب السفينة، كما أن الخضِر ذكَر لِمُوسى عليه السلام الحِكْمة مِن قتْل الغلام ، وربَّما لم يَعلَم الأَبَوَان بِتِلك الحكْمة، ولكنهما مُسْتسْلِمانِ لِقَدَر اللهِ لِأنهما مؤمنَيْن.

     عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "كل شيءٍ بقدرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ". رَوَاهُ أحمد ومُسْلِمٌ.

      وَفِي صَّحِيحِ مسلم: "اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" .

    وَعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ لَهُ: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَمْ يضروك. جفّت الأقلام وطُوِيَتِ الصُّحُف"رواه أحمد .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©