زَوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى

خطبة جمعة في مسجد جمعية أمة بإسطنبول في 24 من ذي القعدة 1440هـ الموافق 26 يوليو 2019م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/takwa.mp3

 

    قال الإمام الترمذي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي. قَالَ: «زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى»، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: «وَغَفَرَ ذَنْبَكَ» قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: «وَيَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ» : «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».

     قال المُباركفوري: رواه النسائي والحاكم في مستدركه، وقال الألباني حسن صحيح.

     قال المباركفوري في تحفة الأحوذي في شرح الحديث:

    قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ) الْقَطَوَانِيُّ الْكُوفِيُّ (أَخْبَرَنَا سَيَّارُ) بْنُ حاتم العنزي أبو سلمة البصري (حدثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعِيُّ.

    قَوْلُهُ (فَزَوِّدْنِي) أَمْرٌ مِنَ التَّزْوِيدِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الزَّادِ وَالزَّادُ طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ يَعْنِي ادْعُ لِي دُعَاءً يَكُونُ بَرَكَتُهُ مَعِي فِي سَفَرِي كَالزَّادِ، (زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى) أَيِ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْمَخْلُوقِ، أَيِ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ النَّوَاهِي.

    (قَالَ زِدْنِي) أَيْ مِنَ الزَّادِ أَوْ مِنَ الدُّعَاءِ.

    (قَالَ زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) أَيْ أَفْدِيكَ بِهِمَا وَأَجْعَلُهُمَا فِدَاءَكَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا، (وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ) أَيْ سَهَّلَ لَكَ خَيْرَ الدَّارَيْنِ حَيْثُ مَا كُنْتَ، أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ حَلَلْتَ وَمِنْ لَازِمِهِ فِي أَيِّ زَمَانٍ نَزَلْتَ.

    قَالَ الطِّيبِيُّ يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّجُلَ طَلَبَ الزَّادَ الْمُتَعَارَفَ فَأَجَابَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا أَجَابَهُ عَلَى طَرِيقَةِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ زَادَكَ أَنْ تَتَّقِيَ مَحَارِمَهُ وَتَجْتَنِبَ مَعَاصِيَهُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا طَلَبَ الزِّيَادَةَ قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا زَعَمَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا تَكُونُ تَقْوَى تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِا الْمَغْفِرَةُ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَغَفَرَ ذَنْبُكَ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاتِّقَاءُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْخَيْرِ لِلْجِنْسِ، فَيَتَنَاوَلُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.اهـ.

     حقيقة التقوى أنها في القلب، وأنها الخوف والخشْيَة : 

     قال تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَه،ُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) الزُّمَر.

     وقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة.

     وقال تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) آل عمران.

     وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين أرسله لليمن كما في المتفق عليه: (واتَّقِ دعوةَ المظلومِ فإنهُ ليس بينها وبينَ اللهِ حِجَاب) ، وقال الحافظ في الفتح في شرح هذا الحديث: جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا: (دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ) وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.اهـ.

     وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) المؤمنون.

     وقال صلى الله علي وسلَّم: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا) ، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . رواه مسلم.

      ثمراتُ التقْوَى:

     1-التقوَى أعظم وأهمُّ زاد في سفَر الدنيا وفي سفَر الآخرة، ونحنُ في سفَر باستمرار، وكلما مرَّ يوم نقَص بعضُ أحدِنا، كما قال الحسن البصري: إنَّما أنتَ أيام، فإذا نقَص يومٌ نقَص بعضك، ولذلك قال تعالى: (وتزَوَّدوا فإنَّ خيرَ الزاد التقوَى) البقرة، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلَّم، اللهَ بتزويد الرجل بها.

      2- ودعا له بالمغفرة وهي من لوازم التقوَى، فكأنه أكَّد الدعاء الأوَّل، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) الطلاق.

      3-وأكَّد له الدعاء نفسه لِلمرة الثالثة، لِأن تيسير الخير في كلِّ زمان ومكان أيضًا من لوازم التقوى، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق.

      4-وجميع المَخارج من المِحَن والفِتَن ومضايِق الدنيا والآخرة، وتحصيل الأرزاق بأنواعها من لوازم التقوى، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق.

      5-كما أن قبول الأعمال من لوازم التقوى، قال تعالى: (إنما يتقبَّل الله مِن المُتَّقين) المائدة.

        وإذا تقبَّل الله من عبْده حسَنة فهي شهادةٌ له بالتقوى، ثم يُكرمه الله بِتَسَلْسَل أسباب التقوى، فالحسنات تتْبَعها الحسنات، قال تعالى: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) الأعراف، وقال تعالى: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) الزمر، وإذا قبِل الله عبدًا قبِله على الدوام، ولَا رَادَّ لِفضْل الله، فعند ابن أبي حاتم عن أَبي الدَّرْدَاءِ: لَأَنْ أَسْتَيْقِنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ مِنِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

      وعند ابن عساكر عن ابن عمر: سَجْدَة. وهذه الَّلوازم فَرْديَّة وجماعية، لِأن لفظة (مَن) تشمل ذلك.

       وبمناسبة ذِكْر زاد التقوى فإن الأمر بالتزَوُّد به ورَد في سياق الكلام على الحج قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) سورة البقرة.

       فعلى من سيحُجُّ هذا العام إن شاء الله الانتباه لِخير الزَّاد، فإن التقوى خير الزاد، عند أداء شعيرة الحجِّ التي يجتمع فيها الأجور العظيمة و الأنساك المباركة، إضافة إلى بَرَكة الزمان والمكان.

       كذلك لا بدَّ من الانتباه إلى أننا في الأشهر الحُرم، ولا بدَّ من مراعاة التزوُّد بالتقوى فيها، ولو لم يَحُجَّ الشخص، والانتباه للأشهر الحُرُم انتباهٌ لِحُرْمتها وحُرْمة زمانها ومُضاعفة الأجور فيها، وإلَّا فالحرْص على التقوى مطلوبٌ سائِرَ العام، وطَوَال عمُر الإنسان كما سبَق، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التوبة.

       وفي الختام يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشْر.

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©