ظاهرة التكفير والغلوّ:

محاضرة في دورة المتخرّجين من جامعة الإيمان المتقدّمين للتوظيف في الدولة في 27 من جمادى الآخرة 1429هـ الموافق 30 يونيو 2008م

 

     تضييق دائرة التكفير في الإسلام :

     * الإسلام يعتذر للناس ، ويُضيّق دائرة حُكْم التكفير في الدنيا ما أمكن ، لأنه يترتّب على ذلك نتائـج كبيرة مثل إقامة حدّ الردّة ، وفسْخ النكاح ، ومنْع التوارث ، ولذلك لا يصدر هذا الحكْم إلا على مَن مارس الكفر الصريح ، وثبت عليه دون تذبذُب ، أما المتذبذِبون وإن كانوا أخطرفقد سمّاهم منافقين ، وأمر بمعاملتهم في الدنيا على الظاهر معاملة المسلمين ، قال تعالى: ( ومنهم ...) (ومنهم...) (ومنهم...) التوبة .  وقال تعالى: ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا .... رأيت المنافقين ... ) النساء ، وقال تعالى: (ليُخرجن الأعزّ منهــا الأذل ..... ولكن المنافقين ...) المنافقون ، وقال تعالى: (إن المنافقين في الــدرك الأسفل من النار...)النساء ، فسمّاهم القرآن منافقين ولم يكفّرهم صراحة رغم الأوصاف الكفْرية لهـم في الآيات  العديدة، وذلك لأنهم لازالوا يزعمون الإسلام  فعُومِلوا على الظاهر بشبهة الإسلام ، والحدود تُدْرَأُ بالشبهات ، قال عليه الصلاة والسلام: (كيف يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) متفق عليه . وكفْرُهم الذي يحاولون خداع المؤمنين عنه ، فلا يصمُدون عليه ، سوف يعاقبون عليه في الآخرة في الدرْك الأسفل من النار . وإذا كفَّر القــرآن المنافقين فبدون تسميةٍ للأشخاص كما في قوله تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة .  وقوله تعالى: ( يحلفون بالله ما قالوا ،ولقد قالوا كلمة الكفْر ، وكفروا بعد إسلامهم ،وهمّوا بما لم ينالوا ...) التوبة .

     * وفتَح الإسلام باب العُذْر للمعذور حقيقة قال تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل .

     لا تكفير إلا إذا توفّرت الشروط وانتفت الموانع :

     * والإسلام يمنع من التكفير إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أيما رجل قال لأخيه: ياكافر فقد باء بها أحدهما ) . متفق عليه . وبيّن أن هنالك كفرًا دون كفر(كلام ابن عباس الذي نقله الألباني في كتابه (فتنة التكفير)، وفسقًا دون فسق ،ونفاقًا دون نفاق (كما في مدارج السالكين) . كما يمنع الإسلام على الراجح من لعن  المعيّن، لأنه قد يكون معناه الجزم بالتكفير ، ويُكتفَى إن صدَر اللعن أن يكون على أوصاف دون أسماء .

       تورُّع السلف عن التكفير:

     * السلف يتورّعون عن تكفير المعيّن ، فلم يُكفّروا مثل الحَجاج ، وفي صحيح مسلم أنه (مُبِِير)، كما استدلّت بذلك أسماء رضي الله عنها ، وبالرغم من أن السلف ومنهم الإمام أحمد يكفّرون مثلًا مَن يقول بخلْق القرآن ومن ينكر الصفات ، إلا أنهم يحتملون للمتأوّلين ولا يخرجون عليهم إذا كانوا وُلاة أمر، ولا يُكَفّرون على التعيين .

     الغلوّ والتكفير نزْعةٌ عُدْوانيّةٌ من الأقليّات :

     * الغلوّ والتكفير بغير تثبُّت ليست ظاهرة عند أهل السنة والجماعة لأنهم الأكثرية ( إلّا واحدة ، هي الجماعة.. كما في الحديث) ، وإنما يقع ذلك من الأقليّات ، وهي فِرَق لديها نزعةٌ عُدوانية كالباطنية والاثني عشرية والخوارج والمعتزلة ، و كذلك كل من تعرّضوا للاضطهاد وقلّ عندهم الورَع أوالعلم أوهما معًا كجماعة التكفير، وبعض من ينتسب إلى السلفية والجهاد ، وقد نشأت بسبب ذلك على رأي الألبـاني فتنة الحرَم ، ومقتل السادات ، وفتنة سوريا ، وفتنة الجزائر ،كما ذكر الألباني ذلك في كتابه (فتنة التكفير) ، ويوافقه على ذلك ابن باز وابن عثيمين والوادعي والقرضاوي وغيرهم . فهؤلاء يرون أنه وإن كان بعـض من ذُكِر يمارسون الكفر، إلّا أنه كفرٌ على طريقة النفاق ، لأنهم يُزايِدون بادِّعاءالإسلام ، فيلزم معاملتهـم على الظاهر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع منافقي عصره ، وقد عرف الناس نِفاقهم وسَلِم العصر من الفتن ، أما الاستعجال في عصْرنا بإنزال حكْم الكفار الصُّرَحاء بهم ، فقد جرَّ على الناس فتنًا عظيمة دون أن تنحسم مادّة النفاق بل زادوا تمكُّنًا ...   وقدذكر الألباني أن الحلّ للمجتمـع المسلم في التصفية والتربية ،واستدل بكلمة الهضيبي : (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم) .

     * أخذ بعض العاملين في الجهاد يُعدّلون أفكارهم أخيرًا، فيمارسون الجهاد على الكافرين في ديار الحرب أو ديار الاحتلال مثل فلسطين والعراق والصومال وأفغانستان ، ولا يمارسونه على المنافقين

     الخوارج والروافض يكفّرون أهل السنة :

     * الخوارج والروافض اعتنقوا التكفير من وقت مبكر ، وبدأوا بالصحابة فمَن بعدهم على مدار التاريخ ، والروافض بالإضافة إلى ذلك يتعاونون مع أعداء الإسلام : التواطؤ مع التتار - ما فعله النصيريون - الدروز - الصفويون - التعاون مع أمريكا - ما فعلوه في العراق وأفغانستان - في لبنان .

     موقف أهل السنة منهم :

     أهل السنة لايكفّرون عوامّ الباطنية والاثني عشرية ونحوهم من الفِرَق الضالّة، لعدم قيام الحجة عليهم ، (كلام المقبلي والألباني في السلسلة الصحيحة) .كما أن جمهور أهل السنة لا يكفِّرون الخوارج .

       أقوال أهل العلم في الخوارج كما أوردها الحافظ في (الفتح) :

     * قال الحافظ في (الفتح) في شرحه للحديث عن الخوارج (يمْرُقون من الدين...) :  في الحديث الكفُّ عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصِب لذلك حربًا أو يستعد لذلك، لقوله: فإذا خرجــوا فاقتلوهم ، وحكى الطبري الإجماع على ذلك في حق من لا يكفُر باعتقاده، وأسنَد عن عمر بن عبد العزيز أنه كتـب في الخوارج بالكف عنهم ما لم يسفكوا دما حراما أو يأخذوا مالا فان فعلوا فقاتلوهم ... ومن طريق ابن جريج قلت لعطاء ما يحل في قتال الخوارج ؟ قال إذا قطعوا السبيل وأخافوا الأمن ، وأسنـد الطبري عن الحسن أنه سئل عن رجل كان يرى رأي الخوارج ولم يخرج ، فقال العمل أملَكُ بالنــاس مِن الرأي ، قال الطبري: ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم وصَفَ الخوارج بأنهم يقولون الحــق بألسنتهم ، ثم أخبر أن قولهم ذلك وإن كان حقا من جهة القول، فإنه قول لا يجاوز حلوقهم ،... وفيه أنه لا يجوز قتال الخوارج وقتْلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق والإعذار إليهم .

     مَن يَرَون تكفيرهم:

     * واستدل (الطبري) بـ(الحديث : يمرُقون من الدين) لِمَن قال بتكفير الخوارج ، وهو مقتضى صنيع البخاري حيث قرنهم بالملحدين ، وأفرد عنهم المتأوِّلين بترجمة ، وبذلك صرح القاضي أبو بكر بن العربي في (شرح الترمذي) فقال: الصحيح أنهم كفار لقوله صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الإسلام) ولقوله: (لأقتلنهم قتل عاد) وفي لفظ: ثمود) وكل منهما إنما هلك بالكفر ، وبقوله: (هم شر الخلق)، ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: (إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى) ، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهـم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالاسم منهم  .

       تكفير السُّبْكِي وغيره للخوارج وغلاة الروافض :

      * وممن جَنَح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه: احتج مَن كفّر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمُّنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة ، قال: وهو عندي احتجاج صحيح، قال: واحتج من لم يكفّرهم بأن الحكم بتكفيرهم يستدعي تقدُّم علمهم بالشهادة المذكورة علما قطعيا، وفيه نظـر لأنا نعلم تزكية من كفّروه علما قطعيا إلى حين موته، وذلك كافٍ في اعتقادنا تكفير من كفّرهم ، ويؤيـِّده حديث (من قال لأخيه ياكافر فقد باء به أحدهما) وفي لفظ مسلم (من رمى مسلما بالكفر أو قال عدوالله إلا حارَ عليه) . قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانـهم ، فيجب أن يُحكَم بكفرهم بمقتضى خبر الشـارع ، وهو نحو ما قالوه فيمن سجـد للصنـم ونحوه مـمَّن لا تصريح بالجحود فيه ، بعد أن فسروا الكفــر بالجحود، فان احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك ، قلنا: وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم ،  ولو لم يعتقدوا تزكية من كفروه علما قطعيا، ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالا والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم ،كما لا يُنْجِي الساجد للصنم ذلك ، قلت: وممن جنَح إلى بعض هذا البحث الطبري في (تهذيبه)، فقال بعد أن سرد أحاديث الباب فيه الرد على قول من قال: لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما ، فإنه باطل لقوله في الحديث: (يقولون الحق ويقرأون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء) ، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه . ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس وذُكر عنده الخوارج وما يلقون عند قراءة القرآن ، فقال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه . ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع ما تقدم من حديث بن مسعود : (لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وفيه التارك لدينه المفارق للجماعة) . قال القرطبي في (المفهِم) : يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد يعني الآتي في الباب الذي يليه ، فإن ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشيء كما خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرمية بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله : (سبق الفرث والدم) . وقال صاحب (الشفاء) فيه : وكذا نقطع بكفر كل من قال قولًا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة ، وحكاه صاحب (الروضة) في كتاب الردة عنه وأقرّه .

     الترجيح:

     * وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فُسَّاق ، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام ، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستنـدين إلى تأويل فاسد ، وجرّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم ،والشهادة عليهم بالكفر والشرك ، وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين ، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم ، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام ، وقال عياض :كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالًا عند المتكلمين من غيرها، حتى سأل الفقيه عبد الحــق الإمام أبا المعالي عنها فاعتـذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين ، قال: وقد توقف قبــله القاضي أبو بكر الباقلاني ،وقال: لم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالًا تؤدي إلى الكفر، وقال الغزالي في كتاب (التفرقة بين الإيمان والزندقة) : والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا ، فان استباحة دماء المصلين المقرّين بالتوحيد خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة ، أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد ، ومما احتج به من لم يكفرهم قوله في ثالث أحاديث الباب بعد وصفهم بالمروق من الدين كمروق السهم : (فينظـر الرامي إلى سهمه ...إلى أن قال: فيتمارى (فيَشُكّ) في الفوقة هل عَلِق بها شيء) ؟ انتهى المراد نقله من (الفتح)، ومع التّمَارِي (الشكّ) لا يُمْكِن الجزْمُ بالتكفير ، وبالله التوفيق .

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©