جيل الصحابة

 محاضرة في مسجد الفرقان بصنعاء مأخوذة بتصرُّف من موضوع ( جيل قرآني فريد ) لسيد قطب رحمه الله بتاريخ 23 شعبان 1431هـ الموافق 2 أغسطس 2010م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . . أن يقفوا أمامها طويلاً . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .

     لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . وقد وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة . ولعل أبرز أسباب ذلك ما يلي :

    1ـ كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : كان خُلقه القرآن . أخرجه مسلم وغيره .

    كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات . . كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تَحفَّان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة. . فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقتصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن نهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة من التوراة . وقوله : ( إنه و الله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي جابر .  وهو عند أحمد والبيهقي .

     فالقرآن مهيمن على الكتب السماوية فضلاً عن الكتب والأنظمة الوضعية . (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران .

    ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، استَقتْ أعداد من الأجيال التالية من فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم . وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط شيء من ذلك بتفسير القرآن الكرم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرَّج على ذلك الخلْط و الدَّخَن أناسٌ في سائر الأجيال ، مع بقاء آخرين حافظوا على النقاء والأصالة ومضوا مع قافلة المجددين والتجديد .

     2ـ كما تميّز جيل الصحابة بمنهج التلقي فلم يكونوا يقرأون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التشوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان ( الأمر اليومي ) ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند البيهقي .

    هذا الشعور . . شعور التلقي للتنفيذ .. كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ذلك ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف .

    إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن بُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجئ ليكون كتاب متاع عقلي ،ولا كتاب أدب وفن . ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا . يتلو بعضه بعضًا ، قال نعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) الإسراء .

    لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية - وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدّث الناس عما في نفوسهم ، وتصور لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .

    إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج آخرين في الأجيال التي جاءتْ من بعد .

    3ـ هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .. لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذِر المتخوِّف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ! وبهذا الإحساس كان يتلقى هدْي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة . . شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدْي القرآني .

     كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .

     كان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد .

     فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية – من التجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية و لا بد من الرجوع إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال ، النبع المضمون الذي لم يختلط ولم تشُبْهُ شائبة ... ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ، وقيمنا وأخلاقنا ، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة .

    ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل لا بشعور الدراسة والمتاع. وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص وبمشاهد القيامة في القرآن .. وبالمنطق الوجداني في القرآن .. وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع . ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول .

     إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع المجتمع ، وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة ، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول .

     4ـ و من تميُّز جيل الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو المربي لهذا الجيل ولا مثيل لتربيته ، فهو أخشى الناس وأتقى الناس وسيد ولد آدم وخاتم الأنبياء وإمام الأنبياء والأسوة الحسنة وصاحب الخلق العظيم ، وكانت مهمته تزكية أكثر الأمم أمِّيةً وفوضويةً لتصبح الأمة النموذج وخير أمة أخرجت للناس ، وفي مقدمة الأمة جيل الصحابة الذين تربَّوا مباشرة على يديه وشهد الله له بإكمال المهمات في الدين فيهم  ومنها التزكية .

     5ـ كذلك فإن الله اصطفى جيل الصحابة كما اصطفى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا الجيل نموذجا .. كان الحافظ للوحيين الفاتح للبلدان ، المنار الذي تقتدي به الأمة بعد اقتدائها بنبيها ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أحال على سنة كبار الصحابة و خلفائهم . ثم شهد لهم القرآن قي آيات كثيرة ، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم ـ رغم أنف الباطنية والروافض والخوارج ـ بأنهم العصابة التي لو هلكتْ فما كانت لتكون العبادة لِله في الأرض  .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©