الزاد الرُّوحِيُّ لِلمسلم

محاضرة في الجالية اليمنية في جمعية الصداقة بإسطنبول  في 6 رمضان 1439هـ الموافق 21 مايو 2018م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

    الزَّاد يكون في السَّفَر، والدنيا دار سفَر:

     عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» أخرجه البخاري.

     وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا، إِلا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا " أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم وصحَّحَه ووافَقَه الذهبي.

       وعن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَنْ خافَ أَدْلَجَ، ومَنْ أدْلَج بلَغ المَنْزِلَ، ألا إنّ سِلْعَةَ الله غاليةً، ألا إنَّ سِلْعَة الله الجنَّةُ".  رواه الترمذي وقال: "حديث حسن". ورواه الحاكم وغيرهما، وفي صحيح الجامع أنه صحيح .  قال المنذري: (أَدْلَجَ) بسكون الدال: إذا سار من أول الليل. والمعنى أن من خاف ألزَمه الخوف السلوك إلى الآخرة، والمبادرة بالأعمال الصالحة خوفاً من القواطع والعوائق.اهـ. وقال تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طبَقًا عن طبَق) الانشقاق، وفي الركوب إشارة للسفَر.

      زاد السَّفَر هو الخفيف النافع، وخير زادٍ هو التقوى الحاصلة من العبادات ونوافلها:

      قال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة.

      وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة.

      ومن العبادات الصيام قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة.

       وقال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة.

        نموذَج الزاد الحاصل من الغِنَى مع كثْرة الإنفاق والزُّهْد: 

        قال تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) الضحى.

        وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ» قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبٌ، أَمْسَى ثَالِثَةً عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللهِ، هَكَذَا - حَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ - وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ - وَهَكَذَا - عَنْ شِمَالِهِ - قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ» قَالَ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى..." متفق عليه واللفظ لمسلم.

       وعن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: "ما تَرك رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْد مَوْتهِ درْهماً ولا دِيناراً ولا عبْداً ولا أَمَةً ولا شيْئاً؛ إلا بَغْلَتهُ البَيضاءَ التي كانَ يرْكَبُها، وسلاحَهُ، وأرْضاً جعَلها لابْنِ السبيلِ صدَقةً". رواه البخاري.

     وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» أخرجه البخاري.

     نمُوذَج الزاد الحاصل من العبادات الموفِّرة لِلجهْد والوقت:

     عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» متفق عليه، وذلك لأن العشر الأَواخِر من رمضان فيها المضاعفة وليلة القدْر، وفيها أنواع العبادات ما عدا الحج.

      ومن حديث أبي هريرة مرفوعا: «كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ يضاعَف، الحسنةُ بعشْر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْف، إلى ما شاء الله قال الله عز وجل: إلا الصومَ فإنه لي وأنا أجزي به، يدَع شهْوته وطعامه من أجلي، للصائم فرْحتان فرْحةٌ عند فِطْره، وفرْحةٌ عند لقاء ربه، ولخُلوف فمِه أطيب عند الله من ريح المِسْك» . قال في صحيح الجامع أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.

      وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله عز وجل من هذه الأيامِ. يعني أيامَ العشرِ"، قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ الله؛ إلَّا رجلٌ خرجَ بنفسهِ ومالهِ، ثم لم يرجِعْ من ذلكَ بشيءٍ".  رواه البخاري والترمذي وأبو داود وغيرهم. وعشْر ذي الحجة تجتمع فيها أنواع العبادات بما فيها الحج.

        أيسَر الزاد وأفضلُه الحاصل لجميع الناس من الأذكار والنيَّاتِ الطيِّبة:

     عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا  عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا لِدَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا رِقَابَهُمْ وَيَضْرِبُوا رِقَابَكُمْ؟" قالوا بلَى، قال: "ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " . قال الحافظ المنذري في الترغيب: رواه أحمد بإسناد حسن، وابن أبي الدنيا والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد".

      ثم قال المنذري: قال معاذ بن جبل: ما شيءٌ أنجَى من عذاب الله من ذكْر الله. وقال في صحيح الجامع صحيح. وقال مُحِّققو مسند أحمد صحيح، ثم قالوا: قال العزُّ بن عبد السلام في "قواعده": هذا الحديث مما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصَب في جميع العبادات، بل قد يَأجُر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها، فإذا الثواب يترتب على تفاوت الرُّتَب في الشرَف.

      وعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلُ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ "، " وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِيهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ مِثْلُ هَذَا، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ " . رواه أحمد وغيره.

      قال محقِّقو مسند أحمد: حديث حسن، رجاله رجال الشيخين، إلَّا أبو كبشة، ثم ذكَروا عن الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث37 أنهما في الأجر سواء، أي في أصل أجر العمل دون مضاعفته، فالمضاعفةُ لِمَن عمِل دون من نوَى فقط، فإنهُما لو استَوَيَا لكُتِب لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملْها عشر حسنات وهو خلاف النصوص كلها، ويدل على ذلك قوله تعالى: (فضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاًّ وَعَدَ الله الحُسنى وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً، درجاتٍ منه) النساء . قال ابن عباس وغيره: القاعدون المفضَّلُ عليهم المجاهدون درجةً هم أهل الأعذار، والمفضَّلُ عليهم المجاهدون درجاتٍ غير أهل الأعذار.

      كما ذكروا أن استشهاد ابن رجب بالحديث دليل على صحته عنده، وأوردَه الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، عند شرح حديث "لا حسد إلا في اثنتين"، ونقَل عن الترمذي أنه حسن صحيح، ولم يتعقَّبه بشيء، فدلَّ على أنه صحيح عنده أيضاً.   

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©